إخراج زكاة الفطر نقدًا أفضل وأيسر في عصرنا هذا وفيه مصلحة للفقير والمزكي
الثلاثاء، 12 مارس 2024
الأحد، 10 مارس 2024
ما حكم إخراج زكاة الفطر قيمةً (نقودًا) بدلًا عن الطعام؟
حكم إخراج زكاة الفطر قيمة:
ما حكم إخراج زكاة الفطر قيمةً (نقودًا) بدلًا عن الطعام؟
صورة المسألة:
أن يقوم المكلف بتقدير ثمن الصاع من الحبوب في زكاة الفطر، ويعطي الفقير أو المسكين ثمن هذا الصاع نقدًا عن زكاة الفطر.
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول:
يجوز إخراج القيمة عن زكاة الفطر[1].
وهذا القول مروي عن جماعة من السلف:
مروي عن: الحسن البصري[2]، وعمر بن عبدالعزيز[3]، والثوري[4]،وهو ظاهر مذهب البخاري[5]، وقد عورض، وهو مذهب الحنفية[6]، ورواية في مذهب أحمد[7].
وقد رجح هذا القول كثير من المعاصرين[8].
واستدلوا على ذلك بأدلة:
الدليل الأول:
أن الواجب في الحقيقة إغناء الفقراء؛ كما ورد في الحديث:
عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: ((كنا نؤمر أن نخرجها، قبل أن نخرج إلى الصلاة، ثم يقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المساكين إذا انصرف، وقال: أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم))[9].
والإغناء يحصل بالقيمة، بل هو أتم وأوفر؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة، وبه تبين أن النص معلول بالإغناء، وأنه ليس في تجويز القيمة يعتبر حكم النص في الحقيقة[10].
الدليل الثاني:
قال طاووس: قال معاذ لأهل اليمن: ائتوني بعرضٍ، ثيابٍ خميصٍ أو لبيسٍ في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة [11].
وجه الاستدلال:
أخذ معاذ الثياب بدلًا من الطعام في الزكاة، وكان أهل اليمن مشهورين بصناعة الثياب ونسجها.
الدليل الثالث:
أن حاجة الناس للأموال أشد من حاجتهم إلى الطعام؛ لأن القيمة تمكنه من شراء الأطعمة والملابس وسائر الحاجات، وهذا أنفع للفقراء.
الدليل الرابع:
أن هذا هو الأيسر بالنظر إلى عصرنا، وخاصةً في المناطق الصناعية التي لا يتعامل الناس فيها إلا بالنقود[12].
ويعضد قولهم: بأن هذا ورد عن جماعة من التابعين:
أ ــ الحسن البصري:
عن هشامٍ، عن الحسن، قال: لا بأس أن تعطي الدراهم في صدقة الفطر[13].
ب ــ عمر بن عبدالعزيز:
عن ابن عونٍ، قال: سمعت كتاب عمر بن عبدالعزيز يقرأ إلى عدي بالبصرة يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم: عن كل إنسانٍ نصف درهمٍ[14].
وعن قرة، قال:جاءنا كتاب عمر بن عبدالعزيز في صدقة الفطر: نصف صاعٍ عن كل إنسانٍ، أو قيمته نصف درهمٍ[15].
ج ــ عن زهيرٍ، قال:سمعت أبا إسحاق يقول:أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام[16].
فهذه آثار عن التابعين، والتابعون يأخذون من الصحابة.
القول الثاني:
لا يجوز إخراج زكاة الفطر قيمة، ولا تجزئ.
وهذا قول جماهير الأئمة من أهل العلم مالك والشافعي وأحمد[17].
وهو قول المالكية[18]، والشافعية[19]، والحنابلة[20]، والظاهرية[21].
واستدلوا على ذلك بأدلة:
الدليل الأول:
عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: ((كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، عن كل صغيرٍ وكبيرٍ، حر أومملوكٍ، صاعًا من طعامٍ، أو صاعًا من أقطٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من زبيبٍ، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجًّا أو معتمرًا، فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمرٍ، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيدٍ: فأما أنا: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه، أبدًا ما عشت))[22].
وجه الاستدلال:
اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أنها طعام لا قيمة، وإنما كان خلافهم في المقدار المتعلق بالبر، ولو كانت القيمة مجزئة لنقل عن أحدهم.
الدليل الثاني:
عن عبدالله بن عمر، قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر - أو قال: رمضان – على الذكر والأنثى، والحر والمملوك: صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، قال: فعد الناس به نصف صاعٍ من بر على الصغير والكبير))[23].
وجه الاستدلال من وجهين:
الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن المفروض، وعين الواجب والتعين يفيد الانحتام، وإلا لم يكن لذكر هذه المسميات معنى[24].
الثاني:
مخرج القيمة إن عدل عن ذلك فقد ترك المفروض، وعدل عن المنصوص، فلم يجزئه، كما لو أخرج الرديء مكان الجيد[25].
الدليل الثالث:
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها من أجناس مختلفة القيمة مع اتفاقها في المقدار، ولو كانت القيمة معتبرة لاختلف المقدار باختلاف الجنس[26].
الدليل الرابع:
أن زكاة الفطر عبادة مفروضة من جنس معين، فلا يجزئ إخراجها من غير الجنس المعين، كما لو أخرجها في غير وقتها[27].
الترجيح:
الراجح - في نظري - هو قول الجمهور: بأنه لا يجوز إخراج القيمة، ولا تجزئ.
برهان ذلك:
ما سبق ذكره من الأدلة، ويؤيده:
أ- أن إخراجها قيمة أيسر من إخراجها طعمة بلا شك؛ لأن إخراجها طعامًا يحتاج إلى كلفة الذهاب، وشراء الطعام، وحمله، ونقله، وتعبئته، وتخزينه، وتسليمه للمستحق، فلما كانت القيمة أيسر، والطعمة أشق، وقد عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن القيمة، ولم يفعلها ولا مرة واحدة، ولم يصرح بجوازها، علمنا أنها لا تجزئ؛ لأن النبي هكما قالت أمنا عائشة: ((ما خيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه...))[28].
فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر، وعدل عنه، علمنا أنه لا يجوز.
ب- أن في إخراجها حبوبًا مصالح كثيرةً، منها:
1- إظهار شعيرة من شعائر الله العظيمة.
2- الرواج التجاري الذي سيحدث، فينتفع منه المزارع، والحمال، والتاجر... إلخ، وهذه منفعة عامة.
الجواب عن أدلة المخالف:
أولًا: استدلالهم بحديث: ((أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم))[29].
والإغناء يحصل بالقيمة، بل هو أتم وأوفر.
الجواب من وجوه:
الوجه الأول:
هذا الحديث ضعيف.
وآفته: أبو معشر، وهو: نجيح السندي وهو ضعيف، ضعفه جماعة، ومنهم: يحيى بن سعيد، ويحيى بن معين، وابن المديني، والبخاري - وقال عنه: منكر الحديث - وأبو داود، والنسائي، وصالح بن محمد، والدارقطني، والخليلي، وغيرهم[30].
والأحكام فرع على التصحيح.
الوجه الثاني:
ولو صح الحديث تنزلًا:
فقوله: ((أغنوهم)) هذا مجمل؛ لأنه لم يذكر قدر ما يستغنون به، ولا جنسه، وقد رواه ابن عمر مفسرًا، فكان الأخذ به أولى[31].
الوجه الثالث:
ولو سلمنا أن الإغناء ليس بمجمل تنزلًا: فالإغناء بالمال قد أهدره المشرع، واعتبر الطعمة.
الوجه الرابع:
وكما لا يجوز في الصلاة إقامة السجود على الخد والذقن مقام السجود على الجبهة، والأنف والتعليل فيه بمعنى الخضوع؛ لأن ذلك مخالفة للنص وخروج على معنى التعبد، كذلك لا يجوز في الزكاة إخراج قيمة الشاة أو البعير أو الحب أو الثمر المنصوص على وجوبه؛ لأن ذلك خروج على النص وعلى معنى التعبد، والزكاة أخت الصلاة[32].
ثانيًا: استدلالهم بقول طاوس: قال معاذ لأهل اليمن:
ائتوني بعرضٍ، ثيابٍ خميصٍ أو لبيسٍ في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة [33].
الجواب من وجوه:
الوجه الأول:
الأثر إسناده ضعيف منقطع؛ لأن طاوسًا لم يسمع من معاذ.
الوجه الثاني:
ولو صح – تنزلًا - فلا حجة فيه؛ للاحتمالات التي تعتريه، ومنها:
ما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح:
أ- حكى البيهقي أن بعضهم قال فيه: من الجزية بدل الصدقة[34]، وإذا ثبت ذلك سقط الاستدلال لكن هذا خلاف المشهور[35].
قال الإمام البيهقي:
في تعليقه على هذا الاحتمال: هذا هو الأليق بمعاذٍ والأشبه بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم به من أخذ الجنس في الصدقات وأخذ الدينار أو عد له معافر ثيابٍ باليمن في الجزية، وأن ترد الصدقات على فقرائهم لا أن ينقلها إلى المهاجرين بالمدينة الذين أكثرهم أهل فيءٍ لا أهل صدقةٍ والله أعلم[36].
ب- وأجاب الإسماعيلي باحتمال أن يكون المعنى: ائتوني به آخذه منكم مكان الشعير والذرة الذي آخذه، شراء بما آخذه، فيكون بقبضه قد بلغ محله، ثم يأخذ مكانه ما يشتريه مما هو أوسع عندهم وأنفع للآخذ، قال: ويؤيده أنها لو كانت من الزكاة لم تكن مردودة على الصحابة، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم فيردها على فقرائهم[37].
ج- وقيل: كانت تلك واقعة حال لا دلالة فيها لاحتمال أن يكون علم بحاجة أهل المدينة لذلك، وقد قام الدليل على خلاف عمله ذلك [38].
ولو سلم الأثر من كل ذلك فغاية ما فيه أنه اجتهاد منه، وقد خالفه المرفوع.
ثالثًا: الجواب عن استدلالهم بالآثار المروية عن بعض التابعين:
الجواب من وجوه:
الوجه الأول:
هذه الآثار منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو صحيح، وإن صحت كلها فالجواب عنها:
هذه اجتهادات للحسن وعمر بن عبد العزيز وغيرهم رحمهم الله، وقد خالفت ما ورد وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني:
فعل أبي بكر وعمر وأبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهم أوثق لنا حظًّا، وأوفى وأولى بالاتباع، وأقوى من فعل الحسن وعمر بن عبدالعزيز ومن وافقهم رحمهم الله جميعًا.
وأختم الكلام بمقالة الإمام أحمد:
قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع: أعطى دراهم – يعني: في صدقة الفطر - قال: أخاف ألَّا يجزئه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو طالبٍ، قال لى أحمد: لا يعطي قيمته، قيل له: قوم يقولون: عمر بن عبدالعزيز كان يأخذ بالقيمة، قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: قال فلان!
قال ابن عمر: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [النساء: 59]، وقال: قوم يردون السنن: قال فلان، قال فلان))[39].
[1] رد المحتار (3/ 322) طـ (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.
[2] مصنف ابن أبي شيبة (4/ 257) رقم: (10466) ط (الفاروق الحديثة) القاهرة.
[3] المصدر السابق، رقم: (10464)، (10465).
[4] المغني (3/ 48) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.
[5] وانظر تبويبه في الصحيح: (باب العرض في الزكاة)، وانظر: فتح الباري (3/ 381) تحت الحديث رقم: (1449) ط (دار الحديث) القاهرة، وقد عُورض في نسبة هذا المذهب للبخاري؛ لأن التبويب لم يكن في صدقة الفطر، وعندما بوَّب البخاري
لزكاة الفطر لم يذكر إخراجها قيمة.
[6] بدائع الصنائع (2/ 569) ط (دار الحديث) القاهرة، البناية في شرح الهداية (3/ 408) ط (دار الفكر) بيروت - لبنان، رد المحتار (3/ 322) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.
[7] الإنصاف (1/ 482) ط (بيت الأفكار الدولية) الأردن، وهي رواية مُخرَّجة.
[8] ومن هؤلاء: الشيخ/ عطية صقر (رحمه الله).
[9] إسناده ضعيف: رواه الدارقطني (2114)، والبيهقي في الكبرى (7739)، وابن زنجويه في الأموال (1961) وآفته: أبو معشر، وهو: (نجيح السندي) وهو ضعيف، وللحديث طرق، وسندها أَوْهَى.
[10] بدائع الصنائع (2/ 569) ط (دار الحديث) القاهرة.
[11] رواه البخاري (باب العرض في الزكاة) قبل الحديث رقم: (1448) وقد رواه معلقًا بصيغة الجزم، لكن إلى طاوس، فهو صحيح
إلى طاوس، ومنقطع؛ لأن طاوسًا لم يسمع من معاذ.
[12] المصدر السابق.
[13] رواه ابن أبي شيبة (10466).
[14] المصدر السابق (10464).
[15] المصدر السابق (10465).
[16] رواه ابن أبي شيبة (10467).
[17] الإفصاح، ابن هبيرة (1/ 350) ط (مركز فجر) القاهرة، المغني (3/ 48) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، المجموع بشرح المهذب (6/ 112) ط (دار إحياء التراث العربي) ت: المطيعي.
[18] الفواكه الدواني على رسالة ابن زيد القيرواني، النفراوي (1/ 384) ط (دار الفكر)، أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك (2/ 108) ط (دار الفضيلة).
[19] المجموع بشرح المهذب (6/ 112) ط (دار إحياء التراث العربي) ت: المطيعي، تحفة المحتاج، الهيتمي ط (دار الفكر) بيروت - لبنان، نهاية المحتاج، (3/ 141) ط (دار الفكر) بيروت - لبنان.
[20] المغني (3/ 48) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، والإنصاف (1/ 482)، ط (بيت الأفكار الدولية) الأردن، كشاف القناع (2/ 320) ط (دار إحياء التراث العربي) بيروت - لبنان.
[21] المحلى بالآثار (6/ 137) مسألة رقم: (708) ط (مكتبة دار التراث) القاهرة.
[22] رواه البخاري (1508)، ومسلم (985).
[23] رواه البخاري (1511)، ومسلم (984)، والترمذي (676).
[24] تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك، لأبي الحجاج يوسف الفندلاوي المغربي (ص 203) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.
[25] الحاوي الكبير، الماوردي (3/ 180) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، المغني (3/ 48 49) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان، كشاف القناع (2/ 320) ط (دار إحياء التراث العربي) بيروت - لبنان.
[26] مجموع رسائل وفتاوى العثيمين (18/ 279).
[27] المصدر السابق (18/ 284).
[28] رواه البخاري (6786)، ومسلم (2327).
[29] إسناده ضعيف: رواه الدارقطني (2114)، والبيهقي في الكبرى (7739)، وابن زنجويه في الأموال (1961) وآفته: أبو معشر، وهو: (نجيح السندي) وهو ضعيف، وللحديث طرق، وسندها أَوْهَى.
[30] تهذيب التهذيب، ابن حجر (5/ 611، 612 ) ترجمة رقم: (8237) ط (دار إحياء التراث العربي) بيروت - لبنان.
[31] الحاوي الكبير، الماوردي (3/ 180) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.
[32] الاصطدام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة، أبو المظفر السمعاني (2/ 81) ح، تهذيب المسالك في نصرة مذهب
مالك، لأبي الحجاج يوسف الفندلاوي المغربي (ص 203) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.
[33] رواه البخاري (باب العرض في الزكاة) قبل الحديث رقم: (1448) وقد رواه معلقًا بصيغة الجزم، لكن إلى طاوس، فهو صحيح إلى
طاوس، ومنقطع؛ لأن طاوسًا لم يسمع من معاذ.
[34] ممن ذكر ذلك الماوردي، انظر: الحاوي الكبير، الماوردي (3/ 181) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان.
[35] فتح الباري، ابن حجر (3/ 381) تحت الحديث رقم: (1448) ط (دار الحديث) القاهرة.
[36] السنن الكبرى، البيهقي (4/ 355) تحت الحديث رقم: (7373) ط (دار الحديث) القاهرة.
[37] فتح الباري، ابن حجر (3/ 381) تحت الحديث رقم: (1448) ط (دار الحديث) القاهرة، وعُورض هذا الاحتمال بأنه لا مانع من
أن يحمل الزكاة للإمام ليتولى قِسمتها، ونقْلُ الزكاة من بلد إلى بلد مسألةٌ خلافية.
[38] فتح الباري، ابن حجر (3/ 382) تحت الحديث رقم: (1448) ط (دار الحديث) القاهرة.
[39] المغني، ابن قدامة (3/ 48) ط (دار الكتب العلمية) بيروت - لبنان
حُكْم إخراج القيمة في زكاة الفطر
حُكْم إخراج القيمة في زكاة الفطر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
اختلف العُلماء قديمًا وحديثًا في حُكم هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
عدم جواز ذلك، وهو قول جُمهور العُلماء من المالكية والشافعية والمشهور عند الحنابلة، وبه قال الظاهريَّة.
ومن أقوالهم في ذلك:
قال مالك رحمه الله: (ولا يُجزئ أن يجعل الرجل مكان زكاة الفطر عرضًا من العُروض- أي: قيمة - وليس كذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام)[1]؛ ا هـ.
وقال الشافعي رحمه الله: (لا تُجزئ القيمة- أي: في زكاة الفطر-)[2]؛ ا هـ.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: (قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع: أعطي دراهم- يعني في صدقة الفطر- قال: أخاف ألَّا يُجزئه، خلاف سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
القول الثاني:
يجوز إخراج القيمة (النُّقود) في زكاة الفطر وهو قول الحنفية.
وممن قال بهذا من الصحابة رضي الله عنهم: عُمر بن الخطاب وابنه عبدالله بن عُمر، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، ومُعاذ بن جبل.
قال أبو إسحاق السبيعي وهو من الطبقة الوسطى من التابعين: (أدركتهم - يعني الصحابة - وهم يُعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام)[9].
وممن قال بهذا من التابعين عُمر بن عبدالعزيز، والحسن البصري، وسُفيان الثوري، وطاووس بن كيسان.
واستدلُّوا بما يلي:
1- عُموم حديث ابن عُمر رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أغنُوهم عن طوافِ هذا اليوم)[10].
2- عن قرة قال: (جاءنا كتاب عُمر بن عبدالعزيز في صدقة الفطر: نصف صاع عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم)[11].
3- قال الحسن البصري رحمه الله: (لا بأس أن تُعطى الدراهم في صدقة الفطر)[12].
4- أن الأصل في الصدقة المال؛ لقوله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ [التوبة: 103].
والمال في الأصل ما يُملك من الذهب والفضة، وأُطلق على ما يُقْتَنَى من الأعيان مجازًا، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج؛ لا لتقييد الواجب وحصر المقصود.
5- أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من الصحابة، فمِنْ ذلك ما ورد عن طاوس عن مُعاذ رضي الله عنه.
قال البُخاري رحمه الله في صحيحه بعد أن عَنْون: (باب العرض في الزكاة): (وقال طاوس: قال مُعاذ رضي الله عنه لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لَبِيسٍ في الصدقة مكان الشعير والذُّرة أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة)[13].
ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن ابن رشيد قال: (وافَقَ البُخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مُخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل)[14].
وفعل مُعاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدلُّ على جوازه ومشروعيته.
7- أن النبي صلى الله عليه وسلم غايَرَ بين القدر الواجب من الأعيان المنصوص عليها مع تساويها في كفاية الحاجة، فجَعَل من التمر والشعير صاعًا، ومن البُرِّ نصف صاع؛ وذلك لكونه أكثر ثمنًا في عصره، فدَلَّ على أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر القيمة.
ورواية (نصف الصاع من البُرِّ) ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طُرُق كثيرة، ولا يسلم ضعفها؛ كما قال بعض المُحدِّثين.
8- أن المقصود من صدقة الفطر إغناء الفُقراء وسدُّ حاجتهم، وهذا المقصود يتحقَّق بالنُّقود أكثر من تحقُّقه بالأعيان؛ لأن نفع النُّقود للفُقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأُرز لهم، ولأنَّ الفقير يستطيع بالنُّقود أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأُسرته وتمكّنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات.
وقد يضطر الفُقراء أحيانًا إلى بيع هذه الأعيان (القمح والأُرز...) إلى التُّجَّار بأبْخَس الأثمان؛ نظرًا لحاجتهم إلى النُّقود في قضاء حوائجهم.
القول الثالث:
يجوز إخراج زكاة الفطر بالقيمة إذا اقتضت الحاجة أو المصلحة الراجحة ذلك، وهو رواية عند الحنابلة، وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور، واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما إذا أعطاه القيمة ففيه نزاع: هل يجوز مُطلقًا؟ أو لا يجوز مُطلقًا؟ أو يجوز في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، وهذا القول أعدل الأقوال "يعني: الأخير")[15]؛ ا هـ.
وقال أيضًا رحمه الله: (والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه؛ ولهذا قَدَّر النبي صلى الله عليه وسلم الجبران بشاتين أو عشرين درهمًا، ولم يعدل إلى القيمة، ولأنه متى جوَّز إخراج القيمة مُطلقًا فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مَبْناها على المُواساة، وهذا مُعتبَر في مقدار المال وجنسه، وأمَّا إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به)[16]؛ ا هـ.
الترجيح:
أولًا: أقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو إخراجها عينًا من غالب قُوتِ أهل البلد من باب الاحتياط، وخُروجًا من الخلاف، وإعمالًا للنصِّ الوارد في ذلك.
ثانيًا: القول الراجح أن إخراج القيمة في زكاة الفِطر يجوز إذا اقتضى ذلك حُصول المصلحة الراجحة، ودفع المشقة؛ لأن المقصود من زكاة الفِطر إغناء الفُقراء وسدُّ حاجتهم من شراء ما يلزمهم من أطعمة وملابس ونحوها.
وهذا المقصود يتحقق بالنقود أكثر من تحققه بالأعيان؛ لأن نفع النُّقود للفُقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأُرز لهم، ولأن الفقير يستطيع بالمال أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأُسرته؛ إذ الفقير في زماننا هذا بحاجة إلى نقود لدفعها في شتى أنواع الضرورات والحاجات التي تتعلق به وبأُسرته.
ومن المشاهد في بعض بلاد المُسلمين أن الفُقراء يبيعون الأعيان التي تُعطى لهم من الزكاة مثل القمح والأرز ونحوهما إلى التُّجَّار بأبخس الأثمان؛ نظرًا لحاجتهم إلى النُّقود.
فهذا القول فيه جمع بين الأدلة الواردة وتحقيق المصلحة الراجحة في ذلك.
تنبيه هام:
هذه المسألة كغيرها من مسائل الخلاف السائغ، فهي ليست من مسائل الاعتقاد، ولا من أصول الدين، وإنما هي مسألة من مسائل الفُروع، والخلافُ فيها لا يُوجِب بغضًا ولا هجرًا ولا قطيعةً بين عُموم المُسلمين وخاصة طلاب العلم منهم؛ لأن الخلاف في مسائل الفُروع ليس فيه هدًى وضلال، وليس فيه إيمانٌ وكُفْرٌ؛ بل يصعب أن يكون فيه خطأ وصواب، وإنَّما قد يكون فيه راجح ومرجوح وقوي وأقوى.
فليسع الجميع في هذه المسائل ما وسع عُلماء الأُمة الثقات من المُتقدمين والمُتأخِّرين، وهذا بعض ما ذكر فيها عنهم بأوضح عبارة وبيان.
ومن خلال هذا العرض في هذه المسألة يتبين ويتضح سبب الخلاف بين العلماء في حُكْمِها، وأنَّ الخلاف فيها قديم، وبكُلٍّ من القولين قال بعض أئمة أهل السُّنَّة، ولكن علينا أن نتحرَّى الإصابة لما كلفنا الله تعالى به من الأحكام، ولا يسع المُسْلم القادر على النظر في الأقوال والآراء أن يُقلد غيره من العُلماء دون أن يعلم ما استندوا إليه من أدلة الشرع الحنيف، فعليه أن يتحرَّى مُراد الله تعالى وحُكمه ما استطاع إليه سبيلًا؛ ولكن عليه أن يتحلَّى بشعار العُلماء بعد ذلك في كل مسألة فيها خلاف، وهذا الشعار هو: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
أخي الحبيب، أكتفي بهذا القدر، وأسأل الله عز وجل أن يكون هذا البيان شافيًا كافيًا في توضيح المراد، وأسأله سبحانه أن يرزقنا التوفيق والصواب في القول والعمل.
وما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ أو زلل فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، والله الموفِّق وصلَّى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] المدونة الكبرى (2/ 358).
[2] الأُم (2/ 72).
[3] المُغني (2/ 357).
[4] المُحلى (6/ 137).
[5] رواه البخاري (1503)، ومسلم (986)، وهذا لفظ البخاري.
[6] رواه مسلم (1718).
[7] رواه الترمذي (2518) والنسائي (5711) وابن حبان (722) وابن خزيمة (2348) والبيهقي (10819) وأحمد (1723)، وصحَّحَه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب (1737).
[8] فيض القدير (3/ 529).
[9] مصنف ابن أبي شيبة (3/ 174).
[10] رواه البيهقي (7739) والدارقطني (2133) وضعَّفَه الشيخ الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (844).
[11] مصنف ابن أبي شيبة (2/ 398).
[12] مصنف ابن أبي شيبة (2/ 398).
[13] صحيح البخاري (2/ 116) باب العرض في الزكاة.
[14] فتح الباري (3/ 312).
[15] مجموع الفتاوى (25/ 79).
[16] مجموع الفتاوى (25/ 82)